فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير المأُثور:

قال السيوطي:
{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)}
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: أنزلت {تبت يدا أبي لهب} بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير وعائشة مثله.
وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: ما كان أبو لهب إلا من كفار قريش، ما هو حتى خرج من الشعب حين تمالأت قريش حتى حصرونا في الشعب وظاهرهم، فلما خرج أبو لهب من الشعب وظاهرهم، فلما خرج أبو لهب من الشعب لقي هندًا بنت عتبة بن ربيعة حين فارق قومه، فقال: يا ابنت عتبة هل نصرت اللات والعزى؟ قالت: نعم فجزاك الله خيرًا يا أبا عتبة.
قال: إن محمدًا يعدنا أشياء لا نراها كائنة، يزعم أنها كائنة بعد الموت، فما ذاك وصنع في يدي، ثم نفخ في يديه ثم قال: تبًا لكما ما أرى فيكما شيئًا مما يقول محمد، فنزلت {تبت يدا أبي لهب} قال ابن عباس: فحصرنا في الشعب ثلاث سنين، وقطعوا عنا الميرة حتى إن الرجل ليخرج منا بالنفقة فما يبايع حتى يرجع حتى هلك فينا من هلك.
وأخرج سعيد بن منصور والبخاري ومسلم وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: «لما نزلت {وأنذر عشيرتك الأقربين ورهطك منهم المخلصين} [الشعراء: 214] خرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف: يا صباحاه فاجتمعوا إليه فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقيَّ؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا.
قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبًّا لك إنما جمعتنا لهذا؟ ثم قام فنزلت هذه السورة {تبت يدا أبي لهب وتب}»
.
وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عمر في قوله: {تبت يدا أبي لهب} قال: خسرت.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في {تبت يدا أبي لهب} قال: خسرت {وتب} قال: خسر.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادة {تبت يدا أبي لهب وتب} قال: خسرت يدا أبي لهب وخسر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: إنما سمي أبا لهب من حسنه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عائشة قالت: إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وان ابنه من كسبه، ثم قرأ {ما أغنى عنه ماله وما كسب} قالت: وما كسب ولده.
وأخرج عبد الرزاق عن عطاء قال: كان يقال: ما أإنى عنه ماله وما كسب وولده كسبه ومجاهد وعائشة قال اهـ.
وأخرج الطبراني عن قتادة قال: كانت رقيه بنت النبي صلى الله عليه وسلم عند عتبة بن أبي لهب، فلما أنزل الله: {تبت يدا أبي لهب} سأل النبي صلى الله عليه وسلم طلاق رقية فطلقها فتزوّجها عثمان.
وأخرج الطبراني عن قتادة قال: تزوّج أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عتيبة بن أبي لهب، وكانت رقية عند أخيه عتبة بن أبي لهب، فلما أنزل الله: {تبت يدا أبي لهب} قال أبو لهب لابنيه عتيبة وعتبة: رأسي من رأسكما حرام إن لم تطلقا بنتي محمد، وقالت أمهما بنت حرب بن أميه، وهي حمالة الحطب: طلقاهما فإنهما قد صبتا، فطلقاهما.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد أن امرأة أبي لهب كانت تلقي في طريق النبي صلى الله عليه وسلم الشوك، فنزلت {تبت يدا أبي لهب وامرأته حمالة الحطب} فلما نزلت بلغ امرأة أبي لهب أن النبي يهجوك، قالت: علام يهجوني؟ هل رأيتموني كما قال محمد أحمل حطبًا في جيدي حبل من مسد؟ فمكثت ثم أتته فقالت: إن ربك قلاك وودعك، فأنزل الله: {والضحى} [الضحى: 1] إلى {وما قلى} [الضحى: 3].
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد {وامرأته حمالة الحطب} قال: كانت تأتي بأغصان الشوك تطرحها بالليل في طريق رسول الله.
وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الغيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد {وامرأته حمالة الحطب} قال: كانت تمشي بالنميمة {في جيدها حبل من مسد} من نار.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة {وامرأته حمالة الحطب} قال: كانت تنقل الأحاديث من بعض الناس إلى بعض {في جيدها حبل} قال: عنقها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن {حمالة الحطب} قال: كانت تحمل النميمة فتأتي بها بطون قريش.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف عن عروة بن الزبير {في جيدها حبل من مسد} قال: سلسلة من حديد من نار ذرعها سبعون ذراعًا.
وأخرج ابن الأنباري عن قتادة رضي الله عنه {في جيدها حبل من مسد} قال: من الودع.
وأخرج ابن جرير والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وامرأته حمالة الحطب} قال: كانت تحمل الشوك فتطرحه على طريق النبي صلى الله عليه وسلم ليعقره وأصحابه، ويقال: {حمالة الحطب} نقالة الحديث {حبل من مسد} قال: هي حبال تكون بمكة، ويقال المسد العصا التي تكون في البكرة، ويقال: المسد قلادة لها من ودع.
وأخرج ابن عساكر بسند فيه الكديمي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بعثت ولي أربع عمومة، فأما العباس فيكنى بأبي الفضل، ولولده الفضل إلى يوم القيامة، وأما حمزة فيكنى بأبي يعلى، فأعلى الله قدره في الدنيا والآخرة، وأما عبد العزى فيكنى بأبي لهب، فأدخله الله النار وألهبها عليه، وأما عبد مناف فيكنى بأبي طالب فله ولولده المطاولة والرفعة إلى يوم القيامة».
وأخرج ابن أبي الدنيا وابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه رضي الله عنه قال: مرت درة ابنة أبي لهب برجل فقال: هذه ابنة عدو الله أبي لهب، فأقبلت عليه فقالت ذكر الله أبي لنسابته وشرفه وترك أباك لجهالته، ثم ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم، فخطب الناس فقال: «لا يؤذين مسلم بكافر».
وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر وأبي هريرة وعمار بن ياسر رضي الله عنهم قالوا: قدمت درة بنت أبي لهب مهاجرة فقال لها نسوة: أنت درة بنت أبي لهب الذي يقول الله: {تبت يدا أبي لهب} فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فخطب فقال: «يا أيها الناس مالي أوذى في أهلي فوالله إن شفاعتي لتنال بقرأبتي حتى إن حكما وحاء وصدا وسلهبا تنالها يوم القيامة بقرأبتي». اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في السورة الكريمة:

قال عليه الرحمة:
سورة المسد:
قوله جل ذكره: بسم الله الرحمن الرحيم
{بسم الله} كلمة جبارة للمذنبين، تجبر أعمالهم، وتحقق آمالهم، وهي للعارفين تصغر في أعينهم أحوالهم، وتكمل عن شواهدهم امتحاءهم واستئصالهم وتحقق لهم بعد فنائهم عنهم وصالهم.
قوله جل ذكره: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ}.
أي: خَسِرَت يداه.
{مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}.
ما أغنى عنه مالُه ولا كَسْبُه الخبيثُ- شيئًا.
وقيل: {ما كسب}: ولده.
قوله جل ذكره: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}.
يلزمها إذا دَخَلَها؛ فلا براحَ له منها. وامرأتُه أيضًا سَتَصْلَى النارَ معه.
{فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَد}.
{مَسَدٌ} شيءٌ مفتول، وكانت تحمل الشوك وتنقله وتبثه في طريقِ رسول الله عليه الصلاة والسلام.
ويقال: سُحْقًا لِمَنْ لا يعرف قَدْرَكَ- يا محمد. وبُعْدًَا لِمَنْ لم يشهد ما خصصناكَ به مِنْ رَفْع محلِّك، وإكبار شأنِك... ومَنْ ناصبَكَ كيف ينفعه مالُه؟ والذي أقميناه لأجلِكَ وقد (أساء) أعماله.. فإنَّ إلى الهوانِ والخِزْي مآله، وإنَّ على أقبحِ حالٍ حالَ امرأتِه وحالَه. اهـ.

.من فوائد الجصاص في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
وَمِنْ سُورَةِ تَبَّتْ:
قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}؛ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «وَمَا كَسَبَ يَعْنِي ولدهُ» وَسَمَّاهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ الْكَسْبَ الْخَبِيثَ.
وَرَوَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أَفْضَلَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ ولدهُ مِنْ كَسْبِهِ».
قال أَبُو بَكْرٍ: هُوَ كَقوله: «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ اسْتِيلَادِ الْأَبِ لِجَارِيَةِ ابْنِهِ وَأَنَّهُ مُصَدَّقٌ عَلَيْهِ وَتَصِيرُ أُمَّ ولدهِ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَالِدَ لَا يُقْتَلُ بِولدهِ؛ لِأَنَّهُ سَمَّاهُ كَسْبًا لَهُ كَمَا لَا يُقَادُ لِعَبْدِهِ الَّذِي هُوَ كَسْبُهُ.
وقوله تعالى: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ}.
إحدى الدَّلَالَاتِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ وَامْرَأَتَهُ سَيَمُوتَانِ عَلَى الْكُفْرِ وَلَا يُسْلِمَانِ، فَوُجِدَ مُخْبَرُهُ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَقَدْ كَانَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ سَمِعَا بِهَذِهِ السُّورَةِ وَلِذَلِكَ قالتْ امْرَأَتُهُ: إنَّ مُحَمَّدًا هَجَانَا، فَلَوْ أَنَّهُمَا قالا: قَدْ أَسْلَمْنَا وَأَظْهَرَا ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدَاهُ لَكَانَا قَدْ رَدَّا هَذَا الْقول وَلَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجِدُونَ مُتَعَلَّقًا، وَلَكِنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُمَا لَا يُسْلِمَانِ لَا بِإِظْهَارِهِ وَلَا بِاعْتِقَادِهِ فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ وَكَانَ مُخْبَرُهُ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ.
وَهَذَا نَظِيرُ قوله لَوْ قال: إنَّكُمَا لَا تَتَكَلَّمَانِ الْيَوْمَ، فَلَمْ يَتَكَلَّمَا مَعَ ارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ وَصِحَّةِ الْآلَةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ أَظْهَرِ الدَّلَالَاتِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ.
وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ أَبَا لَهَبٍ بِكُنْيَتِهِ وَذَكَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِاسْمِهِ، وَكَذَلِكَ زَيْدٌ وَكُلُّ مَنْ ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ فَإِنَّمَا ذَكَرَهُمْ بِالِاسْمِ دُونَ الْكُنْيَةِ؛ لِأَنَّ أَبَا لَهَبٍ كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ الْعُزَّى، وَغَيْرُ جَائِزٍ تَسْمِيَتُهُ بِهَذَا الِاسْمِ، فَلِذَلِكَ عَدَلَ عَنْ اسْمِهِ إلَى كُنْيَتِهِ.
آخِرُ السُّورَةِ. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
سُورَةُ تَبَّتْ وَفِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى:
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ قال: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَك الْأَقْرَبِينَ} وَرَهْطَك مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا وَهَتَفَ: «يَا صَبَاحَاهُ» فَقالوا: مَنْ هَذَا؟ فَاجْتَمَعُوا إلَيْهِ، فَقال: «أَنَا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ مِنْ سَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ، وَأَنَّ الْعَدُوَّ مُصْبِحُكُمْ أَوْ مُمْسِيكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟» قالوا: مَا جَرَّبْنَا عَلَيْك كَذِبًا.
قال: «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ».
فَقال أَبُو لَهَبٍ: أَلِهَذَا جَمَعْتنَا؟ تَبًّا لَك، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجلّ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} إلَى آخِرِهَا.
هَكَذَا قرأهَا الْأَعْمَشُ عَلَيْنَا يَوْمَئِذٍ، زَادَ الْحُمَيْدِيُّ وَغَيْرُهُ: فَلَمَّا سَمِعَتْ امْرَأَتُهُ مَا نَزَلَ فِي زَوْجِهَا وَفِيهَا مِنْ القرآن، أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ مِنْ حِجَارَةٍ، فَلَمَّا وَقَفَتْ عَلَيْهِ أَخَذَ اللَّهُ بِبَصَرِهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ تَرَ إلَّا أَبَا بَكْرٍ.
فَقالتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَيْنَ صَاحِبُك؟ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ يَهْجُونِي، فَوَاَللَّهِ لَوْ وَجَدْته لَضَرَبْت بِهَذَا الْفِهْرِ فَاهُ، وَاَللَّهِ إنِّي لَشَاعِرَةٌ: مُذَمَّمًا عَصَيْنَا وَأَمْرُهُ أَبَيْنَا وَدِينُهُ قَلَيْنَا ثُمَّ انْصَرَفَتْ.
فَقال أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَا تَرَاهَا رَأَتْك؟ قال: «مَا رَأَتْنِي، لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ بِبَصَرِهَا عَنِّي».
وَكَانَتْ قُرَيْشٌ إنَّمَا تُسَمِّي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مُذَمَّمًا، ثُمَّ يَسُبُّونَهُ، فَكَانَ يَقول: أَلَا تَعْجَبُونَ لِمَا يَصْرِفُ اللَّهُ عَنِّي مِنْ أَذَى قُرَيْشٍ يَسُبُّونَ وَيَهْجُونَ مُذَمَّمًا وَأَنَا مُحَمَّدٌ.
المسألة الثَّانِيَةُ:
قوله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}: اسْمُهُ عَبْدُ الْعُزَّى، وَاسْمُ امْرَأَتِهِ الْعَوْرَاءُ أُمُّ جَمِيلٍ، أُخْتُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، فَظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَكْنِيَةِ الْمُشْرِكِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ طَه فِي قوله: {فَقولا لَهُ قولا لَيِّنًا}. يَعْنِي كَنِّيَاهُ عَلَى أحد الْأَقْوَالِ.
وَهَذَا بَاطِلٌ؛ إنَّمَا كَنَّاهُ اللَّهُ تعالى عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِمَعَانٍ أَرْبَعَةٍ: الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ الْعُزَّى، فَلَمْ يُضِفْ اللَّهُ الْعُبُودِيَّةَ إلَى صَنَمٍ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ تَكْنِيَتُهُ أَشْهُرُ مِنْهُ بِاسْمِهِ؛ فَصَرَّحَ بِهِ.
الثَّالِثِ أَنَّ الِاسْمَ أَشْرَفُ مِنْ الْكُنْيَةِ، فَحَطَّهُ اللَّهُ عَنْ الْأَشْرَفِ إلَى الْأَنْقَصِ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْخِيَارِ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ دَعَا اللَّهُ أَنْبِيَاءَهُ بِأَسْمَائِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ عَنْ أحد مِنْهُمْ.
وَيَدُلُّك عَلَى شَرَفِ الِاسْمِ عَلَى الْكُنْيَةِ أَنَّ اللَّهَ يُسَمِّي وَلَا يُكَنِّي وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِظُهُورِهِ وَبَيَانِهِ وَاسْتِحَالَةِ نِسْبَةِ الْكُنْيَةِ إلَيْهِ لِتَقَدُّسِهِ عَنْهَا.
الرَّابِعِ أَنَّ اللَّهَ تعالى أَرَادَ أَنْ يُحَقِّقَ نَسَبَهُ بِأَنْ يُدْخِلَهُ النَّارَ، فَيَكُونَ أَبًا لَهَا، تَحْقِيقًا لِلنَّسَبِ، وَإِمْضَاءً لِلْفَأْلِ وَالطِّيَرَةِ الَّتِي اخْتَارَ لِنَفْسِهِ لِذَلِكَ.
وَقَدْ قِيلَ: إنَّ أَهْلَهُ إنَّمَا كَانُوا سَمَّوْهُ أَبَا لَهَبٍ لِتَلَهُّبِ وَجْهِهِ وَحُسْنِهِ؛ فَصَرَفَهُمْ اللَّهُ عَنْ أَنْ يَقولوا لَهُ: أَبُو نُورٍ، وَأَبُو الضِّيَاءِ، الَّذِي هُوَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ وَأَجْرَى عَلَى أَلْسِنَتهمْ أَنْ يُضِيفُوهُ إلَى اللَّهَبِ الَّذِي هُوَ مَخْصُوصٌ بِالْمَكْرُوهِ وَالْمَذْمُومِ، وَهُوَ النَّارُ، ثُمَّ تَحَقَّقَ ذَلِكَ فِيهِ بِأَنْ جَعَلَهَا مَقَرَّهُ.
المسألة الثَّالِثَةُ:
مَرَّتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قرأءَتَانِ: أحداهُمَا قوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَك الْأَقْرَبِينَ}. {وَرَهْطَك مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ}. وَالثَّانِيَةُ قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَقَدْ تَبَّ}. وَهُمَا شَاذَّتَانِ، وَإِنْ كَانَ الْعَدْلُ رَوَاهُمَا عَنْ الْعَدْلِ، وَلَكِنَّهُ كَمَا بَيَّنَّا لَا يُقرأ إلَّا بِمَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْإِسْلَامِ. اهـ.